تؤدي وسائل الإعلام دوراً كبيراً في توجيه الرأي العام، ودوراً في تغيير وتزوير الحقائق، وتزين كل قبيح، وتقبيح كل جميل. وأصبحت أدوات الإعلام هي التي تصنع العقول والميول والأذواق والاتجاهات النفسية والفكرية عند جماهير الناس. وصارت الدول والأفراد تنفق المليارات من أجل الفوز في معركة " الاستيلاء على عقول البشر " بهدف إحكام السيطرة على مقدرات الشعوب وإخضاعها.
فالإعلام اليوم هو المحرك والمؤثر الرئيسي في الحياة العالمية بكل ميادينها: السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية، بل أصبح فاعلاً رئيسياً في الصراعات والحروب، وصناعة السلام، لهذا نشهد ما سماه " إمبرتو إيكو" بالحرب الجديدة التي تتم معاركها، على شاشات وسائل الإعلام الجديدة، وهي من يحدد الخاسر والفائز بحسب أدائه الإعلامي.
وقد قال أحد وزراء فرنسا بعد أنْ انسحبت قوات بلاده من الجزائر عقب احتلال زاد على مائة عام. " إنَّ ما لم تستطع فرنسا أنْ تحققه بقوة السلاح في الجزائر وشمال إفريقيا، سوف تحققه بالثقافة بعد ذلك"
العولمة الإعلامية هي التشابك بين الإعلام والاقتصاد. لهذا تهتم الدول الكبرى بقطاع الصناعة الإعلامية بجميع أشكالها، إذ تمثل 56 % من إجمالي الناتج القومي لدول أوروبا، وتشغّل 54 % من السكان القادرين على العمل في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تشكل المصدر الأول للمداخيل (الأمريكية من العملات الصعبة تليها مباشرة الصناعات العسكرية والفضائية الأمريكية.
وهناك ارتباط بين العولمة الإعلامية وبين العولمة الثقافية، فتكنولوجيات الإعلام هي حامل للمحتويات الثقافية، إذ يرجع الإعلام للثقافة في بناء كل رسائله، كما أنَّها الهدف الأساسي منه، إذ أنَّ كل رسالة إعلامية تسعى لنشر أو تغيير مكونات ثقافية معينة مثل الأفكار والقيم والعادات.
والواقع أنَّ العولمة الثقافية والإعلامية هي امتدادات لما كان يسمى سابقاً "الهيمنة أو الغزو الثقافي والإعلامي"، كمصطلحات عبَّرت عن واقع ساد طيلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. ويقول جاك ديلكور إنَّ الهيمنة الثقافية وفرضها على دول الجنوب إنَّما هي إحدى شروط الغزو والتوسع. فتدفق الاتصال العالمي يجري في اتجاه واحد شمال جنوب (الشمال الدول المتقدمة والجنوب الدول النامية الفقيرة).
وقد أكدت العديد من الإحصائيات على الهيمنة شبه المطلقة للدول الغربية والشركات المتعددة الجنسيات على السوق الإعلامية، إذ تتمركز في يد الثلاثي الرأسمالي المهيمن بنسبة 90 %، موزعة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية 37%، الإتحاد الأوروبي 29% واليابان بنسبة 24%، وهي تكرس هذه الإمكانات الهائلة التي تملكها لنشر ثقافتها ولغاتها وأنماط الإنتاج والاستهلاك فيها...إلخ، وذلك لنمذجة الحياة في دول العالم الثالث بهدف ضمان مصالحها الرأسمالية فيها.
كما تحتكر أربع وكالات أنباء أجنبية حوالي 90% من فيض الأنباء التي تذاع يومياً ولو أردنا الدقّة فإنّه من بين 35 مليون كلمة تبث يومياً عبر وكالات الأنباء يتمُّ بث 32 مليون كلمة عبر هذه الوكالات الأربع وهي:
(Associated Press أسوشيتد برس) 17.5 مليون كلمة.
(United Press International يونايتد برس الأمريكية) 11 مليون كلمة.
(France-Presse فرانس برس- AFP) 3.5 مليون كلمة.
(Reuters رويترز) 1.5 مليون كلمة.
علماً بأنّ ثلاثة أرباع الأنباء التي تذاع في العالم الثالث تأتي عبر هذه الوكالات الأربع.
بالإضافة إلى سيطرة الدول العظمى على البث الفضائي من خلال نشرهم للأقمار الصناعية، والتي لا يوجد من بينها سوى قمرين عربيين للاتصالات " عرب سات ونايل سات "
بالتأكيد فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية تقف على قمة الدول التي تسعى لمد نفوذها الفكري والثقافي إلى كل بقاع الأرض، وقد قال "بريجنسكي" مستشار الرئيس جيمي كارتر السابق للأمن القومي: "إنَّ على الولايات المتحدة الأمريكية وهي تمتلك النسبة الكبيرة من السيطرة على الإعلام الدولي أنْ تقدم للعالم أجمع نموذجاً كونياً للحداثة بمعنى نشر القيم والمبادئ الأمريكية". وهذا السعي إلى مد النفوذ الفكري والثقافي يعد توطئة لتوسيع الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية لتشمل كل بقاع المعمورة.
ولعل كتاب " من الذي دفع للزمّار؟: الحرب الباردة الثقافية" للكاتب Frances Stonor Saunders. يوضح لنا - فيما يشبه الخيال – السعي الدؤوب من جانب المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) إلى السيطرة على عقول البشر من خلال شبكة واسعة من الصحف والمجلات والهيئات والمهرجانات والمسابقات والمؤسسات الثقافية والإعلامية (مثل الفضائيات) .... مستعينة في ذلك بأكبر الكتّاب والموهوبين في مجال العمل الإعلامي لتحقيق هذا الهدف.
ونحن كبلدان عربية في عالم ثالث نعتبر من أكثر المتضررين بمتغيرات العولمة الإعلامية، إلا أنَّ قارة أوروبا كقوة من قوى العولمة (بالنسبة لنا)، تعاني بدورها من السيطرة الإعلامية الأمريكية، لهذا يرى كثير من الباحثين أنَّ العولمة هي عبارة عن أمركة بحتة للعالم. فأوروبا ذاتها مهددة من قبل النموذج الأمريكي، وخير دليل على ذلك لجوء فرنسا خاصة إلى المطالبة بالاستثناء الثقافي، حيث شهدت " مفاوضات الجات" 13 ديسمبر 1993 م استبعاد المنتجات السمعية البصرية والثقافية من مجال اتفاقية حرية التجارة. وتؤكد الإحصائيات أنَّ "الدول الغربية تقوم بإعادة بث ما نسبته 50 % من البرامج الأمريكية المختلفة أفلام، مسلسلات، عروض فنية وثقافية ورياضية...إلخ، في حين لا تبث الولايات المتحدة الأمريكية سوى ما نسبته 03 % من المنتجات الأوروبية"، كما أنَّ نسبة الأفلام الأمريكية في محطات التلفزيون الأوروبية بلغت عام 1993 م 53 % من البرمجة العامة، لهذا تحاول أوروبا جاهدة الدفاع عن ثقافتها وحماية تميزها الثقافي.
أمَّا بالنسبة لوسائل الإعلام في الدول النامية فتعيد نشر 90 % من البرامج الأمريكية والأوروبية، بما فيها الأخبار والترفيه والأشرطة الوثائقية والدراما.
لا يتوقف الأمر في البلدان العربية خاصة وبلدان العالم الثالث عامة على الاستيراد، بل يشارك الإنتاج المحلي كذلك في عملية العولمة الإعلامية لصالح الثقافة الغربية، حيث يخضع الإنتاج الإعلامي فيها لمعايير سوق العولمة، ويتم ذلك بوعي أو بدون وعي، من خلال عدة مستويات أهمها:
استيراد التكنولوجيا والتقنيات: المستخدمة في إنتاج المادة الإعلامية.
استيراد المناهج العلمية التي يتم وفقها تأهيل وتكوين الكادر الإعلامي، وبالتالي يصبح تفكيره ومنتجاته وفقاً لما تعلمه من المناهج الغربية.
استيراد المضامين الإعلامية أو القوالب الفنية لهذه المضامين أو تقليدها. فمثلاً أصبحت موسيقى (rap pop Jazz الراب أو البوب أو الجاز) شكلاً تعبيرياً رائجاً عالمياً، بما في ذلك عالمنا العربي. كذلك الأمر بالنسبة للسينما والتلفزيون، فإنتاج الأفلام أصبح يتمُّ اليوم في بلدان العالم الثالث وفق المعايير الهوليودية المعتمدة على العنف، والجنس، والإثارة. فبلد كالهند مثلاً لم يكتفِ بالتخلي عن تراثه العريق كمضمون لأفلامه لينجرَّ وراء تقليد المضامين الأمريكية فقط، بل تعدَّى ذلك لبناء مدينة إنتاج سينمائي على شكل مدينة هوليود، وأطلقت عليها الصحافة اسم بوليود.
روَّج إعلام العولمة لعدة معايير وأفكار لبناء أنساق سلوكية مبررة لدى الجمهور أهم هذه المعايير:
الاستهلاكية المفرطة: إذ أنّ سعادة الإنسان وحياته وتميزه ترتبط بما يستطيع أنْ يستهلكه، أو بمنتج معين يظهر ذلك من خلال الإعلانات والبرامج الدرامية المختلفة بل حتى البرامج الجادة أصبحت تعتمد على أنماط معينة من الاستهلاكية حتى تحقق التميز.
الفردانية والأنانية: أي انتشار نمط الإنسان الذي يستغل كل ما هو متاح أمامه لتحقيق مصالحه الذاتية، دون إعطاء أهمية للجماعة أو المجتمع، وإعلام العولمة يقوم بنشر مفهوم مصلحة الفرد فالهدف الأسمى لوجود كل شيء هو راحة الفرد، خاصة إذا كان ميزان القوى لصالحه دون مراعاة لأي أسس قيمية أخرى، فالفرد هو القيمة الوحيدة الجديرة بالتمثل.
تمجيد الربح وسحق المنافس: فالمجتمع الحديث يعيش في حالة من المنافسة رغم الوفرة الكبيرة التي نعيش في إطارها، لكنها متمركزة في يد أقلية محددة، وتزداد تمركزاً، وذلك بغرض الوصول إلى الرفاهية المرجوة.
التركيز على الجانب الاقتصادي أكثر من الجوانب الأخرى: حيث تعتبر المادة أساس الحياة ولا مجال فيها للقيم ولا للروحانيات ولا مساحة للعواطف أو المشاعر والعلاقات الإنسانية أو الاجتماعية القائمة على التكافل والاهتمام بالآخرين، بل إنَّ المادة أساس كل شيء.
الاستهانة بالقيم الاجتماعية والدينية السماوية: خاصة تلك التي تتعارض مع مصالحها التي تحاول الوصول إليها فمثلاً بيع سلعة معينة (الكحول) يعارض قيم معينة في المجتمع ومحرمة في الدين الإسلامي ورغم ذلك فإنّ الشباب لا يقوى على مقاومة إغراء شرائها، فمهمة إعلام العولمة هي تكسير قدرة الفرد على مقاومة إغراء السلعة وبالتالي اقتناء السلعة أو إتيان سلوك معين يخدم السوق.
المواطنة العالمية: لا وجود لانتماء أو هوية مهما كان نوعها حيث تكرّس المواطنة العالمية والتشابه الإنساني في كل شيء.
تمجيد طريقة العيش الغربية الأمريكية: وذلك من خلال عرضها على أنَّها أفضل طرق للحياة، حيث تقضي على كل المعوقات التي تواجه الإنسان بانسيابية ومرونة، وتساعده على التكيف بيسر.
ترسيخ المنتجات الأمريكية: من خلال ترسيخ أساليب الاستهلاك الأمريكية والترويج لمنتجات الشركات الأمريكية وكذلك تقوم على تسويق المنتج الإعلامي الأمريكي.
التوسع في استخدام التكنولوجيات الحديثة: إن الإنتاج التلفزيوني الحديث يعتمد على التكنولوجيات الحديثة، ويقوم بترويجها بأساليب مبهرة على أنَّها أساس الحياة العصرية وأنَّ من لا يتمتع بها ينقصه الكثير حتى يحقق إنسانيته الكاملة في المجتمع الحديث.
تأكيد الغرائز البشرية وإشاعتها: وذلك بإعطائها طابع رومانسي إنساني، وتكرّس الجانب العاطفي على حساب القدرات العقلية لكسر القواعد المنطقية المتعارف عليها وجعل الإنسان يفكر ويتصرف بعواطفه.
تأكيد روح المغامرة والمقامرة للنجاح: باعتبارها أساس النجاح والوصول إلى قمة المجد، فمن لا يغامر ولا يدخل فضاءات جديدة غريبة عنه، ويحاول اقتحام الأخطار من أجل أهدافه لن يصل إليها، فالمغامرة وجه من وجوه البطولة.